سلسلة شخصيات رياضية مغربية بارزة

الكروج

الشخصية الأولى: ” كان عنوانه الصبر والمثابرة فاعتلى قمة الهرم”

حلَّ بعالمنا أواسط سنوات السبعينات من القرن الماضي بمدينة بركان مولود سيحقق فيما بعد مجد الرياضة المغربية وسيساهم في التعريف بالمغرب باعتباره أرضا خصبة لتفريخ رياضيين من مستوى عال، اختير له من الأسماء هشام ونسبه الكروج.  لم يتوقع جيران الحي يوما أن ذلك الطفل الذي كان يلعب رفقة أقرانه كرة القدم في أزقة مدينته ويعود إلى المنزل متسخ الملابس سيكون له شأن كبير في المستقبل، بل وسيصير رمزا من رموز ألعاب القوى العالمية بفضل إنجازاته المتميزة.

التحق هشام الكروج بالمعهد الوطني لألعاب القوى بالرباط سنة 1990 واختص في مسافة 1500، ليبدأ مشوارا رياضيا حافلا تخللته بعض السقطات المؤلمة أحيانا استمر لأربع عشرة سنة كاملة. نال أول ميدالية ذهبية في بطولة العالم داخل القاعة سنة 1995 بمدينة برشلونة في مسافة 1500 واكتفى بميدالية فضية في المسافة نفسها في بطولة العالم في الهواء الطلق بمدينة غوتنبرغ السويدية في السنة ذاتها.

مثّلت دورة أتلانتا تاريخا فاصلا في مسيرة الكروج، كيف لا وهو تاريخ أول مشاركة له في الألعاب الأولمبية  وأول فرصة تتهيأ أمامه للتتويج بأم الإنجازات؛ ألا وهي ميدالية أولمبية تلمع ذهبا والسير على خطى من سبقاه في أولمبياد 1984 بلوس أنجلس ويتعلق الأمر بكل من سعيد عويطة ونوال المتوكل. كان الجميع يعي صعوبة المهمة لأن أغلب الترشيحات كانت تصب في مصلحة الجزائري نور الدين مرسلي صاحب الخبرة في مثل هذه التظاهرات.

 وقع ما لم يكن في الحسبان وسقط هشام قبل الدخول في الدورة الحاسمة من السباق، وتبخر أو بمعنى أصح  تأجل حلم التتويج الأولمبي الذي لم يكن بعيدا عن البطل المغربي، بناء على معطيات السباق و كان من نصيب العداء الجزائري. أسالت هذه السقطة المفاجئة كثيرا من الحبر حول نية العداء الجزائري، إذ وجه له البعض أصابع الاتهام بتعمد عرقلة منافسه المغربي بعدما استشعر خطورته.

نهض هشام الكروج من كبوة أتلانتا عازما على تجاوز هذا الإخفاق وواضعا نصب عينيه دورة سيدني كموعد لا يجب أن يخلفه لتحقيق الحلم الأولمبي المؤجل. حقق البطل المغربي نتائج مبهرة طول السنوات الأربع الفاصلة عن الدورة الأولمبية التالية، إذ توج ببطولتين للعالم في مسافة 1500 سنتي 1997 و1999 وفاز بجميع السباقات التي شارك فيها محققا أرقاما جيدة، منها تحطيمه الرقم القياسي لمسافة اختصاصه في ملتقى روما سنة 1998.

تزايدت الضغوط على الكروج مع اقتراب موعد الألعاب الأولمبية بسيدني وتزايدت المخاوف من وقوع أمر غير مرغوب فيه يحرم المغاربة من رؤية بطلهم يتوج بالذهب الأولمبي. جاء اليوم الموعود وعُزف نشيد غير النشيد الوطني وشوهد هشام يقف في المكان المخصص لصاحب الميدالية الفضية، مما يعني أن ذكريات إخفاق  أتلانتا تكررت رغم اختلاف الظروف. شكل هذا الفشل صدمة كبيرة في حياة هشام دفعته في وقت من الأوقات إلى التفكير في وضع حد لمسيرته الرياضية، بسبب الحملة التي شنتها الصحف المغربية ضده بعد خيبة أملها هي الأخرى من جهة، واعتبار الحلم الأولمبي حلما بعيد المنال لا يحق له تمنيه من جهة أخرى.

تدخل المقربون من هشام الكروج وأصحاب النوايا الحسنة  لثنيه عن الاعتزال، وهو ما استجاب له البطل المغربي  وعاد إلى المضمار وكل تفكيره منصب على تجاوز الإخفاقين السابقين واستخلاص الدروس منهما ووضع تصور كفيل بقيادته  نحو الذهب في دورة سيحين موعدها بعد أربع سنوات بأثينا،  وستكون على الأرجح الفرصة الأخيرة لتحقيق الحلم المفقود. توالت خلال هذه الفترة الإنجازات سواء في بطولتي العالم داخل أو خارج القاعة و اختير هشام أحسن رياضي في العالم خلال ثلاث مناسبات متتالية سنوات 2001 و2002 و2003.

حدث أمر مفاجئ خلال الاستعدادات  للأولمبياد أثار مخاوف العداء المغربي ومحيطه،  وأصبح يعاني من مشاكل في التنفس ولم يعد قادرا على إكمال التداريب. توجه هشام إلى فرنسا قصد استشارة أطباء متخصصين في أمراض الجهاز التنفسي والحساسية ومعرفة حالته الطبية وصار بعدها أسير الأدوية، مما دفع فريق العمل إلى تعديل برنامج الاستعداد للتظاهرة الأولمبية التي لم يعد يفصله عنها آنذاك سوى شهور معدودة.

شارك هشام الكروج في بعض الملتقيات استعدادا للموعد المنتظر، فكان أول محك له ملتقى روما الذي شهد مشاركة جميع المرشحين لنيل الذهب الأولمبي، وحلّ العداء المغربي في مركز متأخر وبتوقيت مخيب للآمال زاد من الشكوك حول قدرته على التتويج في أثينا.  قرر بعد ذلك المشاركة في متلقى لوزان ليختبر قدرته على قهر المرض أولا قبل المنافسين ويحسم بالتالي نهائيا مسألة مشاركته في الأولمبياد من عدمها، ففاز بالسباق بتوقيت متواضع ولكن الأهم في تلك المرحلة هو تحقيق فوز معنوي يعيد الثقة إليه.

حلّق هشام رفقة طبيب الجامعة مرة أخرى صوب فرنسا لتشخيص حالته التي ظلت مستعصية، أملا في علاج ينقذ مسيرته الرياضية وعلى وجه الخصوص حلمه الأولمبي، لكنه عاد واليأس نصيبه من تلك الرحلة العلاجية. قرر بينما هو على متن الطائرة خلال رحلة العودة من فرنسا زيارة طبيب مغربي مختص في أمراض الجهاز التنفسي والحساسية، بعدما ذاق ذرعا من طرق أبواب أطباء فرنسيين لم تُجْدِ خبرتهم الطويلة وصيتهم الواسع نفعا في إيجاد علاج لمرض هشام. كان للقاءٍ استمر لأقل من الساعة مع طبيب مغربي مفعول السحر وأعاد الثقة لهشام في نفسه وفي قدراته، إذ لوحظ عليه تحسن ملموس في توقيت جريه وعاد الحلم ليلوح في الأفق، خاصة عقب تحقيقه لرقمين جيدين في ملتقيين قبيل انطلاق الألعاب الأولمبية.

استثني اسم هشام الكروج هذه المرة من لائحة الأسماء المرشحة في المقام الأول للفوز بالميدالية الذهبية عكس الدورة السابقة، وهو معطى ساهم نوعا ما في التخفيف من الضغط الذي أثقل كاهل البطل المغربي في المناسبتين السابقين وربما كان السبب الرئيسي وراء الإخفاق. روى الفريق المرافق للكروج أن هذا الأخير بدت عليه علامات التوتر قبل انطلاق السباق النهائي وفضل الانعزال والصمت والتركيز على سباق يضاهي لوحده مسارا رياضيا بأكمله. انطلق السباق بإيقاع بطيء جدا إلى غاية آخر ثمان مئة متر التي شهدت ارتفاع الإيقاع بشكل كبير وانحصر الصراع بين هشام الكروج والكيني برنارت لاغارط، قبل أن تنطق معاناة ثمان سنوات وكبرياء بطل مجروح لترجح كفة العداء المغربي ويتحقق حلم بدا تحقيقه في وقت من الأوقات مستحيلا.

كبرت شهية الكروج بعد ذهبية 1500 وقرر المشاركة في مسافة 5000 متر  طامعا في أن يحقق في دورة واحدة مالم يستطع تحقيقه في دورتين أولمبيتين على الرغم من قلة خبرته في هذا النوع من السباقات، متحديا أبرز المرشحين للفوز الإثيوبي، كينيسا بيكلي، العداء  الذي حقق أفضل الأرقام خلال السنة. نجح الكروج في تسيير السباق بطريقة ذكية مكنته من الفوز بسهولة ونيل ثاني ميدالية ذهبية أولمبية في نسخة واحدة، مضاهيا إنجاز العداء الفنلندي بآفو نورمي الذي حققه في دورة 1924 بباريس.

اختتم هشام الكروج مساره الرياضي من أعلى الهرم بعد أن كادت عوائق رياضية وأخرى صحية أن تقضي على حلم مشروع ومستحق لبطل نهض بعد كل سقطة وآمن بقدراته حتى بلغ المراد، مخلدا اسمه في لائحة نجوم الرياضة العالمية عموما ورياضة ألعاب القوى خصوصا.

Crédit image.

أضف تعليق

المدونة على ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑